«أختي كانت بتلعب زي أي طفلة.. ماكناش نعرف إن النهاية هتكون كده.. لو كنا نعرف ضرورة التطعيم.. كانت عايشة وسطنا».. بهذه العبارة الممزوجة بالبكاء والذهول، تبدأ «منة»، شقيقة الطفلة «جوري»، سرد تفاصيل المأساة التي عاشتها أسرتها المقيمة منذ أشهر في مدينة السادس من أكتوبر، بعدما فقدت الصغيرة حياتها إثر إصابتها بأعراض يُرجّح الأطباء أنها نتيجة السعار عقب خربشة كلب ضال لها في محيط الكمبوند قبل نحو شهرين.
«منة»، 18 عامًا، ذات الملامح المرهقة والدموع التي لا تجف، تتذكر تفاصيل الأيام الأخيرة لشقيقتها: «جوري عندها 10 سنين، بريئة وبتحب تلعب.. إحنا ساكنين في الدور الأرضي علشان إخواتي الصغيرين مايتعرضوش لخطر السقوط من البلكونة.. لكن ماكناش نتخيل إن الخطر هييجي من الجنينة نفسها».
انتقلت الأسرة إلى الكمبوند منذ 7 أشهر فقط، بعد رحلة نزوح من غزة، بحثًا عن الأمان، وبأمل أن تمنح الحياة في القاهرة الصغار فرصة للعيش بعيدًا عن أصوات الحرب ومخاوفها، لكنَّ المشهد الذي رافق سنوات الحرب تسلل إلى قلب بيتهم، هذه المرة عبر كلاب ضالة.
تصف «منة» كيف كانت الكلاب تتجول بحرية بين أرجاء الكمبوند: «وأنا قاعدة في البلكونة كذا مرة لقيت الكلاب داخلة علينا.. مرة كمان دخل كلب من باب الشقة وعض أمي وهى نايمة.. لما نادينا الأمن قالوا سيبوه هيخرج لوحده»، كان الحادث الأول جرس إنذار للأسرة، لكنَّ أحدًا لم يتعامل معه بجدية- وفق صاحبة الـ 18 عامًا.
تضيف الشابة خلال حديثها لـ«المصرى اليوم»: «كنا بنتخيل إن الموضوع بسيط، مجرد خربشة.. لكن اللي حصل لـ(جورى) بيأكد إننا كنّا مخطئين».
مأساة جوري الطفلة الفلسطينية في مدينة 6 أكتوبر
في ظهيرة حارة من يوليو الماضي، كانت «جورى» تلعب مع صديقتها أمام البيت، حين ظهر كلب ضال وأمسك بحذائها، تحكي «منة»: «هى خافت، راحت جابت صاحبتها علشان يساعدوها يجيبوا الشبشب.. الكلب هجم وخربش صاحبتها، وكان هيعض جوري من رقبتها.. جوري حطت إيدها تدافع عن نفسها فاتخربشت».
تدخل أحد الشباب لمساعدتهما، فتعرض لإصابة في ساقه، عادت «جورى» إلى بيتها مذعورة، وروت القصة لأسرتها، شقيقتها الكبرى عالجت الجرح منزليًا: «عقمنا مكان الخربشة وخلاص.. محدش فينا يعرف إن لازم تاخد مصل»، إذ كان الجهل بالإجراءات الطبية كان بداية سلسلة المأساة.
مرت الأيام، وظنت الأسرة أن الحادث انتهى، لكن في أواخر أغسطس الماضى، بدأت «جورى» تشكو من حمى وآلام شديدة في العظام، نقلتها «منة» إلى المستشفى: «الدكتور قال لو السخونية ما خفتش بعد يومين أو تلاتة، رجّعوها تاني»، لم تكن الأعراض توحي بخطر داهم.
في الـ 2 من سبتمبر الجارى، تبدلت الصورة، «منة» تتذكر اللحظة وهى تكتم صرختها: «أختي بدأت تدخل في تشنجات.. بقى ينزل ريم من بوقها.. مشهد عمري ما هنساه».
توجهت الأسرة بها إلى مستشفى زايد التخصصي، لكن الأطباء هناك قالوا إنهم غير قادرين على التعامل مع حالتها، ليتم تحويلها سريعًا إلى مستشفى العباسية للحميات، وبعد استماع الأطباء لرواية الخربشة، كانت الإجابة صادمة: «قالتلي الدكتورة إن لازم من أول يوم تاخد المصل.. دلوقتي الحالة متأخرة جدًا»، تقول «منة»، قبل أن تضيف «طبيب في مستشفى العباسية أخبرنا أن الأعراض تتطابق بنسبة 99% مع السعار».

لم يترك المرض مجالًا للأمل، «جوري» فارقت الحياة بعد أيام قليلة من دخولها المستشفى، لتتحول خربشة عابرة إلى مأساة أنهت حياة طفلة لم تكمل أعوامها الـ 10، وفق شقيقة الضحية.
«منة» تتحدث بغضب مكتوم: «أنا بتهم أمن الكمبوند بالإهمال.. تجاهلوا شكاوينا، وقالوا سيبوا الكلاب هتمشي لوحدها.. دلوقتي أختي مشيت من الدنيا كلها»، تواصل وهى تضم صورة شقيقتها: «جوري ما كانتش عدوة لحد.. كل ذنبها إنها كانت عايزة تلعب»، إذ صرحت النيابة العامة بدفن الجثمان عقب التشريح بمعرفة الطب الشرعى، لبيان سبب الوفاة.
لكن الحكاية لا تقف عند أسرة «جوري» فقط.. «أسماء»، جارة تقيم في الكمبوند منذ 5 سنوات، تطرح رواية أخرى: «الكمبوند أصله في منطقة صحراوي.. الكلاب موجودة من زمان وبتدخل وتخرج.. إحنا نظمنا حملة تطعيمات للكلاب عشان نقلل المخاطر».
تؤكد «أسماء» أن كثيرًا من السكان يرفضون قتل الكلاب أو تسميمها، مشيرة إلى أن غيابها قد يفتح الباب أمام انتشار حيوانات أخرى أخطر كالذئاب والثعالب والفئران: «الوقاية هي الحل، مش التسميم.. لكن للأسف في ناس بدأوا يسمموا الكلاب بعد حادثة جوري»، وتضيف: «وصلنا تهديدات لأننا بنرفض قتل الكلاب.. إحنا شايفين إن التطعيم هو الحل الوحيد».
المهندس «مصطفى»، أحد سكان الكمبوند، يشير إلى أن حادثة «جوري» فجرت موجة غضب تحولت إلى أعمال عنف ضد الحيوانات: «بعد وفاتها شفنا فيديوهات لكلاب مقتولة أو محروقة.. في سيدة اتقال إنها حرقت جراوي صغيرة».
«مصطفى» يوضح أن الأمر خرج عن السيطرة: «إحنا ضد التسميم.. لكن كمان ضد إن أطفالنا يموتوا.. المفروض يبقى في تدخل من الجهات المحتصة، مش سايبينا في مواجهة مفتوحة مع الكلاب».




بحسب أطباء في مستشفى العباسية، فإن داء الكلب، أو السعار، يظل واحدًا من أخطر الأمراض الفيروسية، إذ إن أعراضه لا تظهر إلا في مراحل متأخرة حين يكون التدخل العلاجي شبه مستحيل: «النجاة الوحيدة هي التطعيم الفوري بعد أي عضة أو خربشة من كلب غير مطعّم» يوضح أحد الأطباء.
النيابة العامة تواصل التحقيق في مأساة جوري طفلة 6 أكتوبر
وفي حالة «جورى»، كان مرور أكثر من شهرين دون أي تدخل طبي السبب المباشر في دخولها مرحلة متأخرة انتهت بالوفاة. التقرير الطبي المبدئي أشار إلى أن الأعراض تتطابق مع السعار، فيما ينتظر الجميع التقرير النهائي للطب الشرعي.
حادثة صاحبة الـ 10 سنوات، أشعلت الخوف بين الأسر داخل الكمبوند.. بعضهم صار يمنع أبناءه من النزول للعب، آخرون يطالبون ببناء أسوار عالية لمنع دخول الكلاب، وبين هذا وذاك، تستمر حملات فردية متناقضة، بين من يطعّم الكلاب، ومن يقتلها بالسم.
«أسماء» تعلّق بمرارة: «إحنا بقينا منقسمين.. ناس شايفة الكلاب خطر، وناس شايفاها جزء من المكان.. لكن الكارثة إن مفيش تحرك رسمي يحسم الموضوع».
في الوقت نفسه، تواصل النيابة العامة تحقيقاتها، بعد أن أمرت بتشريح جثمان «جورى» لمعرفة السبب الدقيق للوفاة، وتحديد ما إذا كانت الخربشة سببًا مباشرًا أم أن هناك عوامل أخرى.