لم يكن في الحسبان أن طرقًا عنيفًا على باب الشقة في منطقة أبوبيومي بمحافظة القليوبية، سيكون آخر ما تسمعه أم من نجلها، فلم تكن تعلم أن صوت الطرق المتلاحق في قلب الظلام سيحمل رائحة الدم، وأن المساء الهادئ سينقلب إلى مأتم في لحظات.
في تلك الشقة الصغيرة، كان كل شىء عاديًا حتى لحظة الصرخة، حين انفتح الباب على مشهدٍ لن يُمحى: «إلحقونى.. (أبوعلاء)- فكهانى- وابنه (أشرف) ضربونى بسلاح أبيض»، إذ كانت الكهرباء مقطوعة، والهواء خانقًا، والأم تغالب النعاس بعد يوم طويل من تعب السوق، تتذكر اللحظة وكأنها تراها الآن: «كنت بجيب طلبات البيت، كلمت (عبدالرحمن) ينزل ياخد الشنط ويطلعها الشقة.. وبعدها قلت له ينزل يجيب الباقى.. ابنى ده كان إيدى ورجلى، ما يسيبنيش أعمل حاجة لوحدى، بعدها جه لينا سايح في دمه، ولما نزلت مع أخوه نوديه المستشفى، الجار ضربه بالخرطوش وقع ميت على طول، كل ده علشان كان بيحوش عن واحد صاحبه واتنين معاه كانوا بيضربه الجار وعياله».
في لحظة واحدة، تبدّد الهدوء وسقطت الدنيا من تحت قدميها، تقول الأم «كنت نايمة شوية بعدما جبت طلبات البيت، وابنى حط الباقى في السبت»، تهمس وهى تشدّ على طرف طرحتها، «صحيت على خبط جامد جدًا، خبط يخض.. (عبدالرحمن) كان بيخبط بطريقة مش طبيعية.. كان بيصرخ، فتحنا الباب لقيناه سايح في دمه، ماسك جنبه الشمال».
في ثوانٍ معدودة، صرخت الأم في أولادها: «يلا على المستشفى بسرعة»، اندفع الأبناء إلى السلم، وكانت هي تلبس إسدال الصلاة، لم تلحق أن تنزل، حتى دوى صوت الطلق الأول، ثم الثانى، صوت الخرطوش جعلها تنزل السلالم وهى تصرخ باسم ابنها «عبدالرحمن»، وحين وصلت، كان المشهد كابوسًا حيًا، حد وصفها.
«لقيت ابنى واقع على الأرض، الدم مغرق الشارع»، تروى لـ«المصرى اليوم»: «كان (أبوعلاء)، جارنا الكبير اللى فوق الستين، ماسك فرد خرطوش، ضربه في رقبته، وقفت قدامه، شديته من هدومه وشقّيت له الجلابية علشان يبعد، بس ابنى كان مات».
تلتقط أنفاسها بصعوبة، ثم تضيف: «اللى كانوا معاه، مراته وعياله، وسيدات وشباب، كلهم ضربوا ابنى بسكاكين وشوم، كانوا متربصين بيه، وكأنهم مستنيينه في الشارع».
لم يكن الصدام صدفة، تقول الأم إن الخلاف بدأ قبل 3 أيام، حين نشبت مشاجرة بين أحد أصدقاء «عبدالرحمن» وبين «أبوعلاء» وابنه، فتدخّل ابنها للصلح: «فعلًا خلصت المشكلة وسلموا على بعض»، تتنهد وهى تنظر إلى صورة كبيرة له على الجدار، «بس الظاهر إنهم ما نسيوش.. يومها لما شافوه، استنوه وضربوا صاحبه، وهو راح يحوش عنهم، فطعنوه في جنبه».
رواية أسرة المجني عليه في جريمة القليوبية
«ابنى كان راجع يجرى، بيخبط على باب شقتنا وبيقول إلحقونى»، تضيف، «ما كانش معاه سلاح، ولا فكر يتخانق مع حد.. كل اللى في باله إنه يلحق صاحبه من الأذى»، تسكت قليلًا، ثم تهمس كأنها تكلم الغائب: «مات وهو طيب.. مافيش لحظة وداع.. لما ابنى يدوب طلع لنا أخوه (مصطفى) نزل معاه قدام منى على السلالم إلى الشارع، علشان نوديه على المستشفى، جارنا (أبوعلاء) ضربوه بالخرطوش وموته في ساعتها».
تتابع الأم، وهى ترفع عينيها نحو سقف الغرفة كأنها تبحث عن وجه ابنها بين الذكريات: «إحنا عمرنا ما كان بينا وبين (أبوعلاء) ولا ابنه مشكلة.. كنا بنشترى منهم الفاكهة من زمان، وكنا بنعاملهم أحسن معاملة، ولما فتحوا محل بقالة في الشارع بقينا نشترى منهم كمان.. كانوا جيران وأهل بيت واحد، نديهم ويدونا، عمر ما كان بينا خصام ولا كلمة وحشة.. عمرى ما كنت أتخيل إن اللى يبيع لنا، هو اللى هيشيل الخرطوش ويضرب ابنى بيه».
الأب محمد عطية، رجل بسيط ملامحه غارقة في الوجع، وهو يقول لـ«المصرى اليوم»: «كنت في الشغل، ومراتى كلمتنى وقالتلى ابنك (عبدالرحمن) مات.. الكلمة دى خرمت ودانى مش قادر أنساها.. أنا ما صدقتش.. روحت أجرى على المستشفى، لقيته ميت وبيستعدوا يودوه على المشرحة».
يحكى وهو يضغط بكفيه على ركبتيه كمن يحاول منع الألم من الخروج: «(عبدالرحمن) كان فنى شدة معدنية، شغال في المقاولات، وكان بيساعدنى على مصاريف البيت.. من يوم ما اشتغل ما سابش البيت ناقص حاجة.. عمره ما دخل في مشكلة مع حد.. كل الناس كانت بتحبه».

يتنهد طويلًا قبل أن يتابع: «عرفت إن اللى حصل كله علشان كان بيحوش عن صاحبه.. وقبل الواقعة بـ ٣ أيام، كان في خناقة بين (أبوعلاء) وابنه (أشرف) وصاحب (عبدالرحمن).. ابنى هو اللى دخل يصلح بينهم.. خلصت الحكاية واتصالحوا.. لكن بعدها بيومين، (أبوعلاء) وعياله رجعوا يضربوا الولد تانى.. ابنى حاول يبعدهم عنه، فطعنه (أشرف) بالكزلك في جنبه.. جرى (عبدالرحمن) على البيت بينزف، وراح يقول لأخوه (مصطفى)».
«عيالى نزلوا بسرعة، ما كانش معاهم سلاح ولا حاجة»، يقول وهو يشير بيده إلى الخارج: «لقوا (أبوعلاء) ماسك شومة تحت باطه، ومعاه فرد خرطوش.. ابنى (مصطفى) حدفه بطوبة علشان يبعده، لكن (أشرف) جرى ناحية (عبدالرحمن) بالكزلك.. ابنى شاف خشبة على الأرض، خدها وضربه بيها على دماغه علشان يبعده.. والد الجانى وقتها طلع الخرطوش وضرب ولدى في رقبته قبل ما يمشى مع أخوه على المستشفى لعلاج إصابته الأولى.. وقع قدامهم وما اتحركش تانى».
يُسدل الأب صوته في النهاية: «ابنى اتقتل وهو بيدافع عن غيره.. دى نهايته.. خرج ينقذ صاحبه، رجع ملفوف في كفن».
بعد الواقعة، البعض قال إن القصة بدأت بسبب «معاكسة»، ترفع والدة المجنى عليه، رأسها غاضبة: «هما بيحاولوا يلطخوا سمعته.. ابنى ما يعرفش الكلام ده.. ده محترم ومتربى، والتحريات نفسها قالت كده»، وتضيف: «فى جنازته الناس كلها كانت وراه.. الستات كانوا بيعيطوا وبيقولوا ده ابننا، والبنات بيقولوا ده أخونا.. الكل كان بيحبه..»، متابعة: «أنا مش طالبة غير حق ابنى.. هو مات مظلوم، وأنا مش هسيب دمه يروح».
وزارة الداخلية تكشف ملابسات مقتل شاب بطلق خرطوش في القليوبية
وقالت وزارة الداخلية، في بيانٍ إن أجهزة الأمن تمكنت من كشف ملابسات الواقعة التي وثقها الفيديو، مشيرةً إلى أن بلاغًا ورد من أحد المستشفيات أفاد بوصول شابٍ في منتصف العشرينات، «عاطل»، مصاب برش خرطوش في الرقبة، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة متأثرًا بإصابته في ١٤ أكتوبر الجارى.


ووفقًا للتحريات، فإن مشاجرة نشبت بين المجنى عليه وشخصين على خلفية اتهامهما له بـ«معاكسة إحدى الفتيات» من أقاربهما، قبل أن تتطور إلى اعتداءٍ بالسلاح، وأضاف البيان أن الجانيين، اللذين يعملان في تجارة الفاكهة ويقيمان في نطاق مركز شرطة قليوب، استخدما فرد خرطوش تم ضبطه لاحقًا بحوزة أحدهما.
وأكدت الوزارة أن المتهمَين أُلقِى القبض عليهما، وأُحيلت الواقعة إلى النيابة العامة التي تباشر التحقيق في القضية لاستكمال التحقيقات.