مقالات

سجن ساركوزي.. انتصارٌ للقضاء الفرنسي


صالح أبو مسلم

صالح أبو مسلم

الرئيس الفرنسي الأسبق “نيكولا ساركوزي”، الذي حكم البلاد في الفترة من ١٦ مايو ٢٠٠٧م، حتى ١٥ مايو ٢٠١٢م، عُرف عنه بالتشدد والعنصرية ضد المهاجرين بفرنسا، وبخاصة الجاليات الإسلامية، العربية، والإفريقية، وكان أول مَن تدخل بشئون المساجد الإسلامية، والتدخل في اختيار الأئمة، بالإضافة إلى محاولته منع ارتداء الحجاب الإسلامي بفرنسا، ومنعه ارتداء الرموز الدينية في المدارس، والتي تعلقت في الأساس بالجاليات الإسلامية، ومنذ أن كان وزيرًا للداخلية في عام ٢٠٠٥م، كان أول من هاجم أولاد الضواحي بالأحياء الفقيرة في باريس والمدن الفرنسية، واصفًا إياهم بالرعاع الذين لا يستحقون إلا السجن والطرد من فرنسا، وكانت شعاراته الانتخابية الرئاسية هي تقليص عدد المهاجرين بفرنسا، ومنع المساعدات الاجتماعية، والضغط على الطبقات الفقيرة مقابل دعمه للأغنياء، كما اشتهر بالمبالغة في الغرور، التعالي، واستخدام نفوذه السياسي بطريقة غير قانونية، وغير مبررة ليلصقه بالبروتوكول المتعلق بشخصية الرئيس، وهو الأمر الذي تعاني منه فرنسا الآن، ولكل تلك الأسباب وغيرها لم يتمكن من الفوز بفترة رئاسية ثانية، بسبب رفض الفرنسيين لسياساته العنصرية التي زادت من شعبية اليمين المتطرف بفرنسا، وأسست للعنصرية والتطرف ضد المهاجرين، على الرغم من أن أصول ساركوزي أجنبية.

وقد تعرض ساركوزي للكثير من التهم والتحقيقات الجنائية المتعلقة بحصوله على أموال بشكل غير مشروع، وذلك لتمويل حملته الانتخابية عام ٢٠٠٧، ومنها الحصول على أموال من “ليليان بيتانكور”، وقضية التصنت على القضاء، ومحاولة رشوة أحد القضاة، واستخدام نفوذه حتى أدانته المحكمة، واتهمته بالفساد، وحكمت عليه المحكمة العليا بفرنسا في ديسمبر الماضي ٢٠٢٤ بالسجن لمدة عام، وارتدائه سوارًا الكترونيًّا في كاحله مخصصًا للمدانين بارتكاب جرائم بفرنسا، والآن يقبع ساركوزي في سجن “لاساتني” بباريس، وذلك بعد إدانته من قبل القضاء الفرنسي، والحكم عليه بخمس سنوات، بالإضافة إلى تغريمه أربعة ملايين يورو، ليودع في السجن في ٢١ أكتوبر الجاري ٢٠٢٥، ويعود هذا الحكم لاتهامه في الحكم بتلك القضية بسبب تلقيه أموالاً طائلةً بشكل غير مشروع لتمويل حملته الانتخابية من الرئيس الليبي السابق “معمر القذافي” في الفترة ما بين ٢٠٠٥م، عندما كان وزيرًا للداخلية، وصولاً إلى العام ٢٠٠٧م، عندما تمكن من الوصول إلى سدة الحكم، ويشكل الحكم عليه منعطفًا غير مسبوق في تاريخ السياسة الفرنسية، ليصبح أول رئيس يتم دخوله السجن على هذا النحو، ما يثبت أيضًا بأن هناك انعكاسًا لتغييرات عميقة تحدث في المنظومة الفرنسية والقضاء الفرنسي، وتبرز بدورها أيضًا العلاقة بين المزاولة بين المال والسلطة، كالتمويل غير المشروع للحملات الانتخابية بفرنسا، كما يشير الحكم أيضًا بأنه إشارة طمأنة قوية لديمومة القضاء، وذلك لاعتباره الحصن المنيع الباقي لحماية الشعب من السلطات، وتحقيق العدالة بفرنسا، بل وبإثبات أن المؤسسة الحاكمة بفرنسا ليست فوق القانون، إلا أن هذا الحكم القضائي غير المسبوق بفرنسا قد ترك بدوره موجة من ردات الفعل، منها ما هو مؤيد لساركوزي، واعتبار أن تلك المحاكمة سياسية، ومنها المعارضون بمن فيهم الشارع الفرنسي، الحقوقيون، النشطاء، والفقراء المهمشون الذين يعتبرون قرار القضاء انتصارًا للعدالة بفرنسا، واعتبار ذلك بمثابة ضربة لأحزاب اليمين التقليدي، وعلى رأسهم الحزب الجمهوري الذي ينتمي له الرئيس ساركوزي، والذي كان يحلم بتجهيز ساركوزي لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة للعام ٢٠٢٧.

ومن الأمور التي كان يتمناها المحاميون والحقوقيون العرب رفع دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية لمحاولة استرجاع الأموال الليبية المقدرة بمائة مليون دولار، والتي حصل عليها ساركوزي لتمويل حملته الانتخابية، أو برفع دعوى قضائية، أو جنائية أمام محكمة العدل الدولية لاتهام ساركوزي بالتسبب في مقتل الرئيس معمر القذافي أثناء أحداث الثورة الليبية عام ٢٠١١م، وذلك بعد أن قام ساركوزي بمشاركة أمريكية، وغربية بشن هجمات على موكب الرئيس الليبي الراحل، وضرب المنشآت العسكرية في ليبيا، والتسبب في إلحاق الدمار وانتشار الخراب لاحقًا بها، وضياع الأمن والاستقرار بها، وبعدم رجوعها إلى الآن للحاضرة الدولية، وباعتباره خائنًا للرئيس القذافي الذي كان قد زار فرنسا عام ٢٠٠٧م، فاتحًا صفحة جديدة مع الغرب، ومع فرنسا تحديدًا عنوانها (الاقتصاد والاستثمار والمصالح المشتركة)، وقد حاول ساركوزي إنقاذ سمعته بالعمل على سرعة قتل الزعيم الليبي، حتى ساعد في حشد القوى الدولية لإنهاء مهمته.

إن تلك المحاكمة قد فتحت الباب أمام تحميل الرئيس ساركوزي الكثير من الملفات، لتشكل تلك الواقعة تحولاً في العلاقة بين السلطة والقانون، وإشارة حمراء لكل مَن يحاول أن يتخطى القانون والدستور، وبإثبات أن النظام القضائي الفرنسي يمثل الأمل الباقي لحماية القيم والمبادئ الفرنسية، بما فيها القدرة على معاقبة السياسيين وغيرهم، دون التأثر بما يتمتعون به من حصانة، وبأنه لا يوجد أحد فوق القضاء والقانون الفرنسي.


Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts