الإنسان.. منذ تعلم الوقوف على قدميه، تغريه دائماً فكرة “الالتفات” للوراء، لا شيء يغرينا مهما كبرنا أكثر من “وهم العودة”.. العودة إلى لحظات لم نستوعب جمالها إلا بعد أن غادرتنا، الحنين إلى ماضٍ، أو ذكرى، أو زمن عشناه وكنا نظنه، وقتها، عادياً، فاكتشفنا بعد مروره أنه كان قطعة غالية من العمر، عرفنا قيمتها بعد أن فقدناها، وكأنما العقل الباطن لديه قدرة انتقائية مذهلة على “الحنين”، و”النوستالجيا” يشدنا إلى لحظات عشناها، ليختار منها أجملها، وينزع عنها ما كان مؤلماً، ويحيلها “جنة” قد تكون “مجرد وهم اختلقناه”، فقط ليظل الحنين يعربد في وجداننا، لنظل نشتاق إلى ذكريات أيام، كانت مزيجاً من السعادة والشقاء، ولكننا حين نجسدها “منزوعة الألم”، نظل مشدودين للوراء، في محاولة يائسة لاستعادة “فقرة ضائعة” من الزمن.
مهما بلغ أهل العلم، فلن يقدر بشر على اختراع “آلة الزمن”، وما نسميه “استعادة للحظة”، ما هو إلا “تفاوض” مع الحاضر لإقناعه، عبثاً، بمعانقة ما مضى، حين تراودنا رغبة إعادة فتح “أبواب” أغلق الزمن أقفالها، نعاند، ثم نكتفي في آخر الأمر، بالتلصص عبر “نافذة” في وجداننا، لاستعادة تشكيل صور بداخلنا، تذكرنا دائماً، أننا كنا سعداء.
ننسى أحياناً، أن القانون الأبدي يحتم على عقارب الساعة ألا تعود للوراء، لا يمكن أن تُعاش لحظة مرتين، مهما حاولنا تهيئة ظروف مشابهة، وحتى حينما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “إن أعادوا لك المقاهي القديمة.. فمن يعيد لك الرفاق”، لو تأملنا لأبعد من ذلك، وتوهمنا أننا سنعيد نفس المشهد مرة أخرى في نفس المقهى، مع نفس الرفاق، فكيف تتأتى نفس “كيميا اللحظة”، حتى في عالم التمثيل، تعاد نفس المشاهد، ويستحيل، أبداً، أن يتكرر الإحساس.
ويبدو أن صناع السينما لا يكتفون أحياناً بـ”محاكاة الواقع”، وإنما تمتد أبصارهم إلى “استعادة الزمن”، وكأن الكاميرا “آلة زمن مزعومة” تخطت قدرات العقل البشري، لتحاور زمنها الضائع، وتستدعي الماضي في قاعات العرض، كأنها تفتش عن ملامحها القديمة في مرآة يكسوها التراب، يلمع نصفها بوهج الحنين، ويختبئ نصفها الآخر خلف “ضباب السوق” و”اختلاف معادلات الفرجة”، و”تغير المزاج العام”.
إنتاج “جزء ثانٍ” من فيلم ناجح، ليس مجرد مشروع تجاري يسعى لاستثمار “ثروة مضمونة”، ولكنه محاولة لتحدي “طبيعة الزمن”، بالسعي للوصول إلى نفس النقطة مرتين، وتوجيه “الأبطال”، و”الشخصيات” لمواصلة حياتها مرة ثانية، معادلة ربما تكون “ممتعة” للبعض، وربما “مربكة” لجمهور عرف مصير أبطاله، ثم فوجئ بفتح الستار من جديد!
بين لهفة اللقاء، ومرارة الخذلان، فتحت السينما أبواب حكاياتها المنتهية، وغازلت مبدأ الاستمرارية على نفس الخط الزمني لحكايات أحبها الجمهور، وتشهد دور العرض هذه الأيام، الجزء الثاني من فيلم “هيبتا”، ليحكي عن الحب بعد انتهاء الدرس الأول (الجزء الأول الذي عرض في 2016)، وكان محاضرة للبطل “ماجد الكدواني”، ثم خلفته في الجزء الثاني منة شلبي، تلقي (أيضاً) محاضرة عن مجموعة قصص عاطفية، مع تغيير الأبطال وتحويل الحب إلى علاقات سامة (توكسيك)، وهو المصطلح الذي لم يكن قد خرج للنور، وقت عرض الجزء الأول.
ويعرض حالياً “برومو” الجزء الثاني من فيلم “السلم والثعبان”، وكان الجزء الأول قد حقق نجاحاً كبيراً في 2001، بطولة هاني سلامة وحلا شيحة، ليخلفهما في الجزء الثاني عمرو يوسف وأسماء جلال، وبرغم أن الجزءين يحملان الاسم نفسه، ومن تأليف وإخراج نفس الفنان (طارق العريان)، إلا أن تصريحات الأبطال تؤكد أن الجزء الثاني لا علاقة له بالجزء الأول، ويُذكر أن “العريان” صاحب ثلاثة أجزاء مثيرة للجدل من فيلم “ولاد رزق” أخرجها على مدار “9” سنوات، وتصاعدت نجاحات الأجزاء الثلاثة بشكل فاق التوقعات!!
بدا للكثيرين، أن النجاح الكبير للجزء الثالث من ولاد رزق، العام الماضي، وقبله نجاح الجزء الثاني من “الجزيرة”، كفيلان بإعادة تأويل المقولة الشائعة بأن “عمل أجزاء جديدة” يعد “إفلاساً فنياً”، وأن إنتاج أجزاء جديدة من عمل سينمائي لا يمكن اختزاله بأنه “لعب في المضمون”، وتجددت دعاوى “التجريب المسموح في دائرة الحنين” واستنطاق الماضي بلغة الحاضر، لاتساع “قماشة الفيلم” وإمكانية تزيينها بـ”تطريز جديد” يلائم العصر، خاصة عندما يرى مؤلف الجزء الأول أن لديه الكثير ليحكيه بعد مرور فترة من الزمن، مثلما يردد السيناريست تامر حبيب هذه الأيام، بأنه انتهى من كتابة الجزء الثاني من فيلمه “سهر الليالي”، الذي كان أيقونة 2003، ثم تغيرت الظروف، واعتزل بعض نجوم الفيلم، مما يعرض الجزء الثاني للتحديات، مثلما أعلن صناع فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” إنتاج جزء ثانٍ بعد مرور أكثر من ربع قرن، رغم رفض الفنان فتحي عبد الوهاب (أحد أبطال الفيلم)، لفكرة التكرار نظراً لتغير الجمهور.
ويرى “مراقبون” أن خطورة “الاستسهال”، بإعادة استخدام قصة، أو شخصية، يحوّل عملية “استحضار روح العمل” إلى “نبش” في الوجدان، وكأنه مجرد “إعادة تدوير للمشاعر”، لا أكثر!
وتثور العديد من الأسئلة في أذهاننا: هل يمكن تكرار مشاعر “بنت لحظتها”.. أم أن الدهشة تموت فور أن تعاد؟ هل نعيش قصص حب جديدة أم نستعيد القديم بوجوه أخرى؟ هل ما يعاد عرضه هو “شريط سينما”، أم “شريط حياتنا”؟ هل يتابع الجمهور أحداث الجزء الثاني على الشاشة، أم يتأمل نفسه في الماضي عبر شاشة الزمن؟ كيف يتحول الحنين من “عاطفة عابرة” إلى حركة نفسية معقدة؟ هل الحنين قوة مزدوجة تهدي وتضلل، معاً، تفتح طاقة نور وفي نفس الوقت تجعل صاحبها أسيراً للنسخة الأولى من نفسه، “سجيناً” في متحف الذكريات؟ وأخيراً.. كيف يمكن لجزء ثان من فيلم قديم أن يلقي بالإنسان في متاهة جهنمية بين ما كان يجب أن يبقى، وما كان لابد أن يرحل؟!









