مقالات

القاهرة على خط النار: وساطة صامتة بين بيروت وتل أبيب

في الشرق الأوسط، لا تهدأ الخرائط حتى وهي تشتعل. فكل صمتٍ على الحدود يخفي صخباً في الغرف المغلقة، وكل تهدئةٍ مؤقتة هي مجرد استراحةٍ في حرب الإرادات، على تخوم الجنوب اللبناني، تتقاطع النيران بالرسائل، وتتناسل الشبهات من رحم الصبر، فيما تتحرك القاهرة – بخطى هادئة كعادتها – لترمم ما تصدّع في هندسة الإقليم، وتعيد ضبط الإيقاع قبل أن يتحول الشرر إلى طوفان.

إنها وساطة من نوعٍ آخر، بلا كاميرات ولا مؤتمرات، بل بخيوطٍ سرية تمتد من بيروت إلى تل أبيب، ومن هناك إلى القاهرة، حيث تُدار السياسة بمنطق الجغرافيا لا العواطف.

تحرك مصري محسوب في لحظة اشتعال

لم يكن ظهور رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية في زياراتٍ متزامنة لتل أبيب ثم بيروت مجرد جولةٍ بروتوكولية، فالتحرك في هذا التوقيت يعكس يقظة مصرية تجاه احتمالات الانفجار على الحدود الشمالية لإسرائيل، ومحاولة استباقية لاحتواء تدحرج المشهد نحو مواجهةٍ مفتوحة.

القاهرة، التي راكمت خبرة طويلة في إدارة ملفات التفاوض العربية – الإسرائيلية، تعرف متى تتدخل ومتى تترك الآخرين يجرّبون الفوضى. واليوم، تبدو كمن يرسل إشاراتٍ إلى العاصمتين مفادها أن «الوسيط العربي الأقدم» لم يغادر المسرح بعد، وأنه لا يزال يمتلك مفاتيح التهدئة وخيوط الاتصال الآمنة مع الجميع، من تل أبيب إلى بيروت مروراً بالدوائر الغربية.

ما بين اختبار النوايا ومرحلة الجسّ الدبلوماسي

رغم الحراك الكثيف، لا يمكن الحديث بعد عن مفاوضاتٍ غير مباشرة بالمعنى الرسمي للكلمة، فالقنوات المفتوحة حتى اللحظة أقرب إلى رسائل أمنية متبادلة، منها إلى طاولة تفاوض ترعاها الأمم المتحدة أو واشنطن. ومع ذلك، ثمة «لغة جديدة» بدأت تتشكل في الكواليس، تحاول فيها الأطراف قياس حدود المرونة السياسية لدى كلٍّ من حزب الله والحكومة اللبنانية من جهة، وموقف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من جهةٍ أخرى.

ما يجري أقرب إلى «تفاوضٍ صامت» تُدار خيوطه عبر وسطاء أمنيين، وتُبنى عليه حسابات لاحقة لترتيب المشهد قبل أن يخرج إلى العلن.

القاهرة.. .بين واجب الأمن القومي وإعادة التموضع الإقليمي

التحرك المصري لا ينفصل عن معادلةٍ أوسع تتعلق بمستقبل الأمن الإقليمي، فاستقرار الحدود اللبنانية يعني تقليل احتمالات اتساع رقعة الصراع الذي يضغط على غزة والبحر الأحمر وسوريا في آن واحد.

ومصر، التي تدرك حجم الإنهاك الإقليمي، تتعامل مع هذا الملف ببراغماتية عالية، فهي تسعى من جهة إلى حماية مصالحها القومية ومنع أي خلل في التوازنات المتاخمة لحدودها الشمالية، ومن جهةٍ أخرى إلى استعادة دورها التاريخي كركيزة تفاوضية بين الأطراف العربية والإسرائيلية، خصوصاً بعد التراجع النسبي لأدوار بعض العواصم التقليدية في الملف اللبناني.

الرسالة التي أرادت القاهرة إيصالها واضحة: لا حلول في الإقليم من دون المرور عبرها، ولا تسويات مستقرة من دون حضورها كضامنٍ للتوازن.

رسائل متبادلة ومؤشرات دقيقة

زيارة المسؤول المصري إلى بيروت جاءت محمّلة بإشاراتٍ متناقضة لكنها شديدة الدقة، فمن جهة، حملت تحذيراً مبطناً من أن استمرار التصعيد قد يقود إلى حربٍ مدمّرة لا يريدها أحد، ومن جهةٍ أخرى، فتحت الباب أمام إمكانية إدارة تفاهمات أمنية تمهّد لحوارٍ سياسي أوسع.

المؤشرات العلنية القليلة التي تسربت من بيروت وتل أبيب توحي بأن الطرفين يختبران حدود التهدئة عبر وسطاء، وأنّ ملف «الخط الأزرق» ومناطق الاشتباك المحدودة قد يكونان مدخل التفاهم الأولي.

أما صمت واشنطن والمبعوثة الأمريكية أورتيغاس فيعني ببساطة أن شيئاً يتحرك في الخفاء، وأن القاهرة تُمنح هامشاً أوسع للتحرك في منطقةٍ شديدة الحساسية.

الداخل اللبناني والإسرائيلي: عقدتان في طريق الوساطة

المعادلة اللبنانية لا تزال معقدة. فالدولة الرسمية تتحرك بحذر بين ضغوط حزب الله ومخاوف الانهيار الاقتصادي والسياسي، في المقابل، يعيش نتنياهو وضعاً داخلياً مرتبكاً يجعله يوازن بين رغبة المؤسسة العسكرية في تجنب حربٍ مفتوحة على جبهتين، وضغوط اليمين الإسرائيلي الذي يرى في التصعيد وسيلة للهروب من أزماته الداخلية.

من هنا، فإن أي محاولة وساطة تحتاج إلى ضماناتٍ واضحة وإلى بيئةٍ لبنانية أكثر تماسكاً، فالمفاوضات – إن بدأت – ستحتاج إلى طرف لبناني موحّد ورؤية داخلية متفق عليها، وهو ما يبدو حتى الآن بعيد المنال.

وساطة متعددة المستويات

الحركة المصرية لا تأتي في فراغ. فهناك شبكة كاملة من الاتصالات الأوروبية والأمريكية والخليجية تواكب هذا الملف، في محاولة لاحتواء أي انفجارٍ قد يمتد إلى سوريا أو البحر المتوسط.

القاهرة تدرك أن دورها ليس احتكارياً، بل تكاملياً، وأن موقعها يتيح لها ممارسة «الوساطة المرنة» التي تجمع بين الدبلوماسية الهادئة والقنوات الأمنية المباشرة، إنها أشبه بمهندسٍ يضع الأسس الأولى لجسرٍ سياسي قد يُبنى عليه لاحقاً تفاوضٌ رسمي بإشراف الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة.

الخلاصة: مفاوضات لم تبدأ.. .لكنها تتحرك

حتى اللحظة، لا يمكن القول إن المفاوضات بين لبنان وإسرائيل قد بدأت فعلاً، لكن المؤكد أن مرحلة الإعداد لها انطلقت، فهناك جهد مصري متدرج يسعى لتثبيت الهدوء وتبادل الرسائل وضبط الإيقاع الميداني قبل أن يُفتح الباب لمفاوضاتٍ حقيقية.

ما يجري هو «اختبار للنوايا» أكثر من كونه مساراً تفاوضياً، لكنه اختبارٌ بالغ الأهمية قد يحدد شكل المرحلة المقبلة في المشرق العربي.

قراءة استراتيجية ختامية

تحاول القاهرة اليوم أن توازن بين ضرورات الأمن الإقليمي ومصالحها الاستراتيجية، وأن تعيد رسم موقعها في خريطة الشرق الأوسط التي تتشكل من جديد، فاستقرار الجبهة اللبنانية شرطٌ لنجاح أي مبادرة تهدئة في غزة، والعكس صحيح.

من هنا، فإن تحركاتها الهادئة، الصامتة أحياناً، ليست مجرد وساطة بل جزء من مشروعٍ أوسع لإعادة هندسة التوازنات في المنطقة.

هل تنجح مصر في تحويل هذه الاتصالات المتقطعة إلى مسار تفاوض فعلي؟

الجواب يتوقف على قدرة الأطراف على قراءة اللحظة التاريخية بعينٍ باردة، أما القاهرة، فهي تتحرك بخطى ثابتة، مدركةً أن الكلمة الفاصلة في الشرق الأوسط لا تُقال في المؤتمرات، بل تُنسج بهدوء في الغرف المغلقة.

اقرأ أيضاًالصحة السودانية: ميلشيا الدعم السريع قتلت 12 كادرا طبيا بمدينة «بارا» شمال كردفان

ما بعد اتفاق غزة.. هل تشهد القاهرة اتفاق المصالحة في السودان؟

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts