بين واشنطن وتل أبيب.. .تبقى القاهرة مركز التوازن
لم تكن التحركات المصرية الأخيرة تجاه الملف الفلسطيني مجرّد وساطةٍ تقليدية أو تحرّكًا دبلوماسيًا عابرًا، بل جاءت كترجمةٍ عملية لدورٍ تاريخي وجغرافي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة تخصّ غزة. فالقاهرة، التي ظلّت لعقودٍ حائط الصدّ الأخير أمام انهيار الإقليم، تعود اليوم لتقود مرحلةً أكثر حساسية، حيث تتقاطع السياسة بالأمن، وتتشابك المصالح بالواجب الأخلاقي تجاه شعبٍ أنهكته الحرب والدمار.
في هذه اللحظة الحرجة، تبدو مصر وكأنها تسحب بخيوطٍ هادئة المشهد المتوتر من حافة الانفجار إلى مساحة الحوار. فبينما تتكاثر الوفود الدولية، وتعلو الأصوات المتنازعة حول من يملك حق إدارة القطاع أو إعادة إعماره، تتحرك القاهرة بخطواتٍ محسوبة، مدركةً أن أي تسويةٍ حقيقية تبدأ من الداخل الفلسطيني، لا من على موائد الخارج. ولهذا كان حوار الفصائل الذي ترعاه القيادة المصرية بمثابة حجر الزاوية في إعادة بناء البيت الفلسطيني الممزق.
وفي موازاة التحرك المصري، تحاول واشنطن عبر مبعوثيها – ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر – أن تُمسك بخيوط التهدئة من الجانب الإسرائيلي، في محاولةٍ للحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار الذي جاء بعد حربٍ مدمّرة استمرت عامين. زيارة المبعوثين إلى تل أبيب، ولقاؤهما برئيس الوزراء الإسرائيلي، تعكسان رغبةً أميركية في ضمان تطبيق المرحلة الثانية من الاتفاق، لكن دون قدرةٍ فعلية على التأثير الميداني ما لم يكن هناك توافق مع القاهرة. فالميدان لا يُدار من واشنطن، بل من العواصم التي تلامس الجغرافيا وتفهم نبضها. ولهذا، تبقى مصر المحور الذي تدور حوله كل الجهود، مهما تعددت العناوين والمبعوثون.
المخابرات المصرية.. .الحارس الصامت في زمن العواصف
وهنا يبرز الدور المحوري لجهاز المخابرات العامة المصرية، الذي ظلّ لعقودٍ الواجهة الصامتة للسياسة المصرية في أصعب اللحظات. فالجهاز الذي راكم خبراتٍ عميقة في إدارة ملفات الأمن القومي، كان – ولا يزال – همزة الوصل بين القاهرة وحركة “حماس” وبقية الفصائل الفلسطينية. ومنذ اندلاع الانتفاضات الأولى وحتى جولات التصعيد الأخيرة، حافظت المخابرات العامة على خيوط التواصل مفتوحة، مهما بلغت حدة الخلافات. فهي التي نسّقت عمليات تبادل الأسرى، وأشرفت على ترتيبات وقف إطلاق النار، وساهمت في نزع فتائل الانفجار أكثر من مرة حين كانت المنطقة على وشك الانزلاق إلى المجهول.
إنّه دورٌ ليس جديدًا عليها، بل امتدادٌ لتاريخٍ طويل من العمل في صمت، حين كانت الكلمة السرّ في القاهرة، والعين الساهرة على توازن الإقليم.
تدرك مصر أن ما يجري في غزة ليس مجرد أزمةٍ سياسية، بل معادلةُ وجودٍ تتعلق بأمنها القومي قبل أي اعتبار آخر. فحدودها الشرقية ليست مجرد خطٍ على الخرائط، بل شريانٌ حيّ يتنفس من رئة غزة، وما يصيب القطاع من اضطرابٍ أو حصار ينعكس مباشرةً على توازن الأمن الإقليمي كله. ومن هنا جاء الإصرار المصري على إطلاق المرحلة الثانية من الاتفاق، التي تشمل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من بعض المناطق، وفتح معبر رفح، والشروع في عملية إعمارٍ حقيقية تعيد الحياة إلى المدن المدمّرة.
لكن الدور المصري لا يُقاس فقط بالقدرة على إدارة الملفات الأمنية أو السياسية، بل في عمقه الأخلاقي والتاريخي. فمصر، رغم ما تتحمّله من أعباء داخلية وضغوطٍ خارجية، ما زالت تؤمن أن لغزة عليها دينًا من العروبة والإنسانية، وأن الدفاع عن حق الفلسطينيين في الحياة هو دفاعٌ عن ذاتها وعن قيمها التي لم تتبدّل. إنها لا تبحث عن مجدٍ إقليمي، بل عن استقرارٍ شامل، يعلم الجميع أنه لن يتحقق ما لم تمرّ بوابته من القاهرة.
لقد أثبتت التجربة أن كل من راهن على تجاوز الدور المصري، أو حاول القفز عليه، فشل في الإمساك بخيوط اللعبة. فالقاهرة ليست طرفًا، بل مركز الثقل الحقيقي في أي حراكٍ سياسي يتعلق بغزة أو بالمنطقة بأسرها. إنها المعادلة الصعبة التي لا يمكن لأي قوة – مهما بلغ نفوذها – أن تفرض واقعًا جديدًا دون التنسيق معها أو المرور عبرها.
في النهاية، تدرك القيادة المصرية أن السلام الحقيقي لا يُبنى على خرائط أو مؤتمرات، بل على وعيٍ جديد داخل المجتمع الفلسطيني، وعلى رؤيةٍ مشتركة تعيد للإنسان الفلسطيني ثقته بنفسه وبمستقبله. فإعادة الإعمار ليست مجرد بناء حجارة، بل ترميمٌ للروح، ومصالحةٌ مع الألم، وصياغةٌ لعهدٍ جديد تتنفس فيه غزة الحياة من جديد.
ومن هنا، يتكامل دور المخابرات العامة المصرية مع الدبلوماسية الهادئة التي تنتهجها القاهرة في إدارة أزمات الإقليم. فبينما تتحرك الأجهزة على الأرض بصمتٍ وفاعلية، تظل الخارجية المصرية ترسم الإطار السياسي العام بلغةٍ متزنة، تحفظ لمصر هيبتها وتوازنها وسط العواصف. إنها معادلة القوة الناعمة والخبرة الصلبة، التي جعلت من القاهرة ـ رغم كل التحولات ـ بوابة العبور إلى ما بعد الحرب، وصاحبة الكلمة الفصل حين تشتدّ العتمة في سماء المنطقة.
من القاهرة تبدأ الخطوة الأولى، ومنها فقط يمكن أن يُرسم الغد.. .!!
–محمد سعد عبد اللطيف
كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.